بعث رئيس الحكومة سعد الحريري سلسلة من الرسائل السياسيّة خلال الخُطاب الذي ألقاه في مَجمَع بيروت للمعارض (بيال) في إحتفال الذكرى الثالثة عشرة لإغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، علمًا أنّ تقييم هذا الخُطاب، وشكل ومضمون المهرجان ككل، كان مُتفاوتًا جدًا من قبل القوى السياسيّة. فماذا يُمكن تسجيله من نقاط في هذا السياق؟.
أوّلاً: من حيث الشكل، كان رئيس "تيّار المُستقبل" وحيدًا تمامًا على مُستوى قيادات قوى "14 آذار" السابقة، مُقارنة بدورات سابقة من الذكرى عينها، حيث غاب قادة مُختلف الأحزاب المسيحيّة التي كانت مُتحالفة مع "المُستقبل"، وإنسحبت شخصيّات سياسيّة وإعلامية أخرى من هذه القوى بسبب ما إعتبر "سوء التنظيم البروتوكولي بسبب كثافة الحُضور". كما سُجّل غياب كبير أيضًا لشخصيّات كانت مُنتمية إلى "تيّار المُستقبل" أو أقلّه محسوبة عليه، في الوقت الذي بدا لافتًا في المُقابل حُضور شخصيّات كانت محسوبة في الماضي على قوى "8 آذار"، ومن بينها وزير العدل سليم جريصاتي الذي نال جلوسه إلى جانب رئيس الحُكومة حصّة من السجالات التي حصلت على مواقع التواصل الإجتماعي، باعتبار أنّ الوزير جريصاتي كان من أبرز مُنتقدي عمل "المحكمة الدَوليّة" ومن أبرز مُحامي الدفاع عن "الضُبّاط الأربعة"، ولوّ أنّ حُضوره إحتفال ذكرى "14 شباط" لأوّل مرّة جاء بصفته الرسميّة وإلى جانب مجموعة من المسؤولين والقيادات تُمثّل "التيّار الوطني الحُر".
ثانيًا: من حيث المضمون، ركّز رئيس الحكومة في خطابه على تثبيت مرجعيّته في تمثيل خط الرئيس الراحل رفيق الحريري، مُوجّهًا الإتهامات لمن خرجوا من تحت عباءة "تيّار المُستقبل"، في مُحاولة واضحة لحثّ مُناصري "التيّار الأزرق" على عدم التصويت لهؤلاء، باعتبار أنّ هاجس رئيس "تيّار المُستقبل" الأكبر هو عدم خسارة حصريّة تمثيل الطائفة السنّية في لبنان. وإذا كان من شأن القانون النسبي الجديد أن يسمح بوصول بعض الشخصيّات السنّية المحسوبة على قوى "8 آذار" إلى البرلمان، فإنّ خشية رئيس الحكومة ليست من هؤلاء الذين لم يأت على ذكرهم في خطابه، بل من "صُقور" سابقين كانوا محسوبين أو مُقرّبين من "المُستقبل" في الماضي القريب. والسبب أنّ فوز من خرج من تحت جناحي "المستقبل" يعني عمليًا تقاسم النفوذ معه داخل البيئة السنّية وضُمن الخط السياسي العريض عينه إلى حدّ ما، ولوّ أنّ الحريري حاول الإيحاء بعكس ذلك مُعتبرًا أنّ هؤلاء يُؤدّون خدمة لحزب الله وحتى بالعمل لصالحه.
ثالثًا: من حيث المضمون أيضًا، ساوى رئيس الحُكومة في كلمته بين ما أشيع عن عودة تحالف المُستقبل مع "الثنائي الشيعي" ضمن التحالف الخُماسي من جهة، وما أشيع عن عودة تحالف المُستقبل مع كل من أحزاب "القوات" و"الكتائب" والأحرار"، نافيًا كلا الأمرين، بأسلوب يُوحي وكأنّ في الأمر تهمة، علمًا أنّ تموضع "التيّار الأزرق" السياسي العريض كان حتى الأمس القريب إلى جانب الأحزاب المسيحيّة الثلاث التي أسماها، والعكس صحيح أيضًا.
رابعًا: ودائمًا من حيث المضمون، حرص رئيس الحكومة على شدّ عصب مُناصريه بالتأكيد جهارًا أن تيّاره يرفض التحالف مع "حزب الله"، في مُحاولة لإظهار تمسّكه بنفس الخط السياسي الذي سمح للتيّار الأزرق بالوصول إلى الحجم الذي هو عليه، ما دفع بأكثر من جهة سياسيّة مُعارضة له، إلى إنتقاد تغاضيه عن كل التسويات والإتفاقات والتفاهمات القائمة، والتركيز على رفض تحالف لم يطلبه "الحزب" أصلاً، وهو لا يُفيد "الثنائي الشيعي" بشيء. وكان الرد الأقسى على لسان رئيس "حزب التوحيد العربي" وئام وهاب الذي غرّد قائلاً: "إذا كان سعد الحريري لا يريد علاقة مع "حزب الله" فليستقل من الحكومة وإلا سيكون شخصيّة متعدّدة الأوجه والألوان، نحن نفهم الحاجة إلى تحريض الناس ولكن مع قليل من الصدق إحترامًا لعقولهم".
خامسًا: على الرغم من عدم تطرّقه إلى أسماء المُرشّحين أو إلى التحالفات المُرتقبة، أكّد رئيس "تيّار المستقبل" عدم الإستعداد للتنازل بشكل كبير عن حصّص نيابيّة تُشكّل جزءًا مُهمّا من كتلته النيابيّة،عندما شدّد على أنّ "المُستقبل" هو تيّار عابر للطوائف والمذاهب ويرفض التقوقع، مُمهدًا بذلك الطريق أمام تبنّي ودعم شخصيّات غير سنّية في المعركة الإنتخابيّة، كما حصل في مُختلف الدورات الإنتخابيّة الماضية، وقاطعًا الطريق على أيّ تنازلات مُهمة من قبله في إطار المُفاوضات المُستمرّة للتحالف مع قوى حزبيّة مسيحيّة أساسيّة.
سادسًا: قدّم رئيس الحكومة نفسه بأنّه يعمل للإستقرار الداخلي، مُوحيًا بأنّ أي خيار مُغاير يعني الدُخول في أتون النار في المنطقة، وتحدّث عن أموال وفرص عمل موعودة بفعل المؤتمرات الدَوليّة، في مُحاولة لإستمالة المزيد من الناخبين، الأمر الذي عرّضه لردُود تتحدّث عن أنّ ما يُحكى عن أموال ما هو إلا إغراق للبنان بمزيد من الديون، وما يُحكى عن حصر الخيارات بالمُهادنة أو بالحرب مُغاير للحقيقة، والإثبات يتمثّل في السياسة التي إتبعها الحريري نفسه لسنوات طويلة إعتبارًا من العام 2005.
في الختام، الأكيد أنّ مهرجان الذكرى 13 لإغتيال رئيس الحكومة السابق كان مُختلفًا تمامًا في شكله ومضمونه عن الإحتفالات السابقة المشابهة، والأكيد أيضًا أنّ الحسابات الإنتخابيّة العليا والتي تعني "تيّار المُستقبل" حصرًا، طغت على كل الإعتبارات الأخرى، وهذه عادة سائدة حاليًا وهي تطال الأغلبيّة الساحقة من القوى والأحزاب في لبنان، لنكون مُنصفين!